الدنيا حلم.

فرغت من صلاة العصر في مسجد القايد، مسجد حي جدتي حيث ترعرعت و أمضيت قدراً لا بأس به من من طفولتي، و صباي و شبابي على قدر سواء. كان هذا المسجد ، و لا يزال إلى حد ما آية في مدينة الدوحة، إذ يهولك عدد المصلين في كل صلاة، و لك أن تعرف أن المتسابقين على الصفوف الأولى يفوقون الخمسين رجلاً من مختلف الأعمار و يزيد عدد المصلين فجر كل يوم عن المئات أغلبهم من الباكستانيين.

كان إحسان أحد هؤلاء المتسابقين، لا زلت أذكره، بلحيته البيضاء و ابتسامته التي لا تفارقه. هذا الباكستاني الذي كان يجيد اللغة العربية و الإنجليزية على حد السواء و كان دائماً يقول: “هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟” فلست تفقده في الصف الأول بالرغم من عرجته،يحب الحديث بالإنجليزية معي، فقلت له و لا زلت لا أدري لم سألته حينها : كم بلغت من العمر يا سيدي؟ بالإنجليزية.

فقال: نادني ب”أخي”، فهذا أحب إلي.

فقلت: يا أخي، كم بلغ عمرك؟

فقال: خمس و ستون حجه.

فقلت: فإن كان شيء تعظني به؟

ابتسم و قد أخذت قدمه- أجلكم الله – تؤلمه، فقد كان مصاباً بداء السكري فجعل يمسكها و يكبسها و هو في هذا كله مبتسم: لا زلتَ شاباً، ثم إن هناك مغريات كثيرة، و فتن أكثر تمر بنا و قلوب الرجال ضعيفة، كما سترى لاحقاً. رائد.. الدنيا وحل نمر به،  ومن يقل لك أن يمضي في الوحل دون أن يصيبه أذى فهو إما كاذب أو أعمى. فهناك من يبلغ الوحل بعضاً من قدمه و من يبلغ الوحل ركبتيه و هناك من يتمرغ به. فاحرص إن بلغت عمري ألا يصيبك من هذا الوحل إلا ما يلزمك القليل من الوقت لإزالته، و إلا أمضيت باقي عمرك متحسراً آسفاً نادما على ما بدر منك.

أغرورقت عيناه، و أخذ يتعلل بالجو و الزكام ثم اتبع: كأن هذه السنين التي أمضيت حلم مر بي، و الذكريات التي ظلت أسردها مفتخراً  في صباي هي نفسها التي أخجل لذكرها اليوم.أدع الله لي يا أخي.. أرجوك.

و أنت كذلك، ادع الله لي.

ثم أني ذهبت بغرض الدراسة في الولايات المتحدة و عندما عدت سألت إبنه: أين هو؟

فأخبرني أنه مات. فكان في ركب من فقدت، و من افتقدت.

غفر الله له، و لموتى المسلمين أجمعين، و أمهلني من الوقت ما يلزم من تمرغ بالوحل إزالته. .

 

رائد

كتبتها: و قد بلغت من العمر إثنين و ثلاثين سنة!         

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. abrar

    2011/07/15 - 11:46 م

    كلمات مؤثره وسرعان ماتصل الى القلب ,,نحتاج الى من هم امثال الشيخ احسان كثيرا,,غفر الله لناوله

  2. منى٢٩

    2011/07/16 - 01:45 م

    تمر علينا وجوه كثيرة مثل وجه احسان قد لا نكترث لهم ولا نهتم بوجودهم في المسجد في كل صلاة وفي نفس المكان لكن غيابهم المفاجئ يؤلمنا و يظهر لنا مدى تقصيرنا في حقهم
    رحم الله موتى المسلمين وأنار قبورهم مد بصرهم

  3. إيمان العبدان

    2011/07/16 - 05:57 م

    لو كان العنوان : الدنيا وحل ، لكان أبلغ

    ما عدا ذلك فقد أجدتَ الوصف بما لا يضع لكلماتي وزناً مهما أثنيتُ وزدتُ في الثناء

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات