أوراق من زمن بعيد.

كانت تجوب البيت في عبث، هي تضطرب كشعلة في ليلة باردة لا تدري عما تبحث، تحدث نفسها: هل كان علي أن أتشاجر و إياه؟ و لم؟ و بعد كل هذه العقود من الزمن؟ ألم نصبح أسن من تلكم المشاحنات التي ينسى سببها و يبقى أثرها  ثم لا يمنع الطرفان من المصالحة سبب الشجار على الاطلاق بل عنادهما؟ لأي شيء؟ ثم ألم نأتي هنا لنقضي بعض الوقت بعيداً عن أولادنا و أحفادنا؟ تباً.. جلست في إحدى الغرف. ثم إنها لمحت صندوقاً أبيضاً كانت قد نست أمره في تلك الزاوية.

سمعت صوت الباب و صوت الخادمة يختلطان معاً، فعلمت أنه عاد. أطلت من الغرفة، هذا العجوز تجره عصاه، يحمل جريدة عمرها أيام أو أسابيع، كان يحرص في صباه أن يقرأ كل جديد لكنه أيقن أن الأخبار و إن جدّت فهي لا تختلف عما قبلها، فلم يعد يكترث باقتناء كل جديد و معرفة كل سبق. كأن يعلم أن زعيماً مات لتوه أو بعد ثلاثة أيام أو حتى أسابيع مضت!لأي شيطان يكترث بهذا؟ و ما الذي يغير هذا الخبر من حياته اليومية؟ خانه عقله لكن يده بقت وفية لتلك العادة، أن يحمل ما يقرأ حتى إن كان لا يملك الوقت للقراءة أصلاً. رأته يميل رأسه إلى الخادمة فهمس شيئاً كأنه أمر ما، عله أمر بقهوة.

ذهبت إلى حيث كان سألت بتردد: أغاضب أنت؟

فرّق ما بين أصبعي الشاهد و الإبهام قائلاً : بعض الشيء، بما يعطي للحياة مذاقاً. قالها متهكماً! ثم تبسم.  تراه كهذا الشاب الحالم الذي عرفته قبل أربعين عاماً، لم تبد تجاعيده و لا شعره الأبيض لم يبد إلا هو من وراء هذا الزمن، هذا اللي وعدها بأن يحقق كل أحلامها، و قد حقق بعضها ففرحت و عجز عن تحقيق البعض فتغافلت.

وقفت أمامه ثم دعته: هلا أقبلت معي.

اصطحبته من يده، فقال: آه هذا أحسن، عصا من صنع الرب خير من عصا من خشب.

ثم جلست و جلس هو بجانبها. أمام نافذة تطل على الشارع العام في مدينة الضباب. أشارت إلى الصندوق الأبيض،  فقالت: خمن ما وجدت؟

فقال: سبب آخر يجعلك تأسفين على تقضية ما تبقى من عمرك معي؟

عاجلته و هي تنظر إليه بعتب : أصدقك الأسباب عديدة خارج الصندوق، لا حاجة لي للبحث بين الصناديق لكن هذا الصندوق يحوي ما يجعلني أتعلق بك.

أزاحت غطاء الصندوق، كانت هناك أوراق شتى، بألوان و أحجام مختلفة لكنها جميعها تميل للصفرة و قد تشققت أطرافها و صارت أماكن الطي بها أخاديد واضحة. انتقت واحدة فأعطته إياها. راح يضحك حين قرأها ثم وضعها و امتدت يده إلى أخرى.. كأنه طفل يمد يده إلى الحلوى تلتهم عيناه السطور ثم يتلو ذلك انعكاس الذكرى على وجهه و وجه زوجته. هناك قصاصة أحس بيدها تعانق يده بقوة كأنها رسالة منه لها، هناك ورقة خضراء علقت بها رائحة المستشفى، دمعت عيناها حين رأتها و تذكرت نفس الألم يعاودها و نفس الفقد يزورها و يطرق أبوابها بعد كل هذا العمر، فكأن الجرح ما ندب. ربت على كتفها قائلاً : “رحمه الله. و جمعنا و إياه في جنة الخلد” قالت: “آمين” دعينا نبحث في بقية الأوراق امتدت يده إلى ورقة دهش لها فقال: ما كنت أرجو.. قاطعته: لم تبلغ السبعين بعد كفاك تذمراً1.

نظر إلى ورقة بيضاء، تأملها لبرهة  ثم وضعها جانباً.  نظر إليها ملياً، “هل تسمحين لي بأن أبقي هذه الورقة بعض الوقت بجانبي؟”

بكل ود يا عزيزي.  

ابتسم و هو يربت على يدها.  

همس قائلاً: “شكراً لكل هذه الأوراق.” ثم استدرك “بل شكراً لكل هذه الذكريات.”  

و أمضيا بقية اليوم يقلبان النظر في حياة ملئاها بالفرح و الحزن، بالكسب و الفقد, بالجد و الهزل، بالرضى و الزعل..

 

(1)    إشارة إلى البيت: ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشريناملكته بعد أن جاوزت سبعينا

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. Nojoud Al Bastaki

    2011/06/12 - 12:54 ص

    Lovey, I enjoyed reading it :)

  2. S A Sultan

    2011/06/12 - 01:02 ص

    Nice scene I felt I was watching.

  3. Lavender

    2011/06/12 - 01:12 ص

    ذكريات من الزمن الجميل

    أحتفظ بحقيبة مليئة بالذكريات

    نحتاج من فترة إلى أخرى للاطلاع عليها

    والسفر في بحر الذكريات

    :)

    سلمت يداك أخي الكريم

  4. أسامه العسيري

    2011/06/12 - 09:42 ص

    هي ذكريات نبنيها … فتذكروا الجميل منها، وتجاهلوا ما كرهتموه…

  5. Coffee Mug

    2011/06/26 - 03:31 ص

    ^_^

    كتابة جميلة, اسمح لي بأن أحتفظ بها مع أوراقي
    ولكن خارج الصندوق…!

  6. أمل

    2011/07/13 - 04:23 ص

    احاول قدر المستطاع ان ابقي فقط الذكريات الجميله في ذاكرتي
    كتابات رائعه

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات