كفرت بالقلم و آمنت باللسان.

 

ترامى إلى طلاب معهد اللغات الذي كنت أدرس به اللغة اليابانية ذات يوم أن المعهد سيغلق أبوابه و لم يعرف السبب. حاولت و أقنعت بقية الطلاب بأن نمارس حقنا في المواطنة الفعالة، سخر مني بعضهم و بقي معي نفر قليل. عكفت على كتاب أطالب فيه المسؤولين بالابقاء على معهد تدريس اللغات، و تعوان معي بعض الاخوان لصياغته على أكمل وجه على أن نذيله بتوقيع مئة طالب و طالبة فخرجنا بكتاب ساق كل دليل و فند كل حجة. كتاب يناشد العاقل، و ينبه الغافل، و يعلم الجاهل بقيمة تعلم أبناء البلد للغات شتى. و كنوع من الاحتياط، أشار علي زميلي بأن نعرضه على رجل اشتهر ب”فاتح المطالب بإذن الله – جونير.” و هو من يلخص الكتب و يعلم فحواها و محتواها. يعلم ما يقرأ أصحاب القرار و أي السطور تلفت أعينهم.  

تعاهدت و زميلي  قبل صلاة الفجر عند متوضأ مسجد حي هذا الخبير. ذاكم أن الرجل يوسوس، فهو ما أن يبلغ المسجد حتى يحدث نفسه أن إبليس قد ترك كل الصالحين و جعل إنقاض وضوءه غاية قصوى. ثم ضرب راحة يده بقبضة الأخرى قائلاً: “و أثناء الوضوء سنأخذ موعداً معه.” و كذا فعلنا.  

عند الضحى، و قبل أن نهبط للسرداب حيث يقبع الخبير الذي نقصد، كنت على يقين من قوة القلم أحلف لكم أني كنت أرتب الكلمات في عقلي موبخاً هؤلاء الذين سخروا منا و قالوا أننا حالمون بلا مواطنة فعالة بلا هبل!  كانت درجة الحرارة منخفضة بفعل كل المكيفات حتى هممت بأمر سوء أن ألبس ثوب صوف ثم أعود مرة أخرى. لن أسهب في كمية الغبار الذي لاقينا أنا و صاحبي أو كمية الملفات التي وطأناها. سحقنا أحلاما و مطالباً و كممنا الشكاوى بأقدامنا حتى وصلنا إلى مكتب “فاتح المطالب بإذن الله – جونير”  الذي لم نر منه سوى رأسه من خلف الملفات المكدسة أمامه. أزاح كومتين من الملفات ، كمن يفتح مصرعي باب، و من هنا جاءت تسمية “فاتح المطالب بإذن الله جونير.” جعل يفحص الكتاب، و هو يهمهم بما لا يُفهم. ثم خلع نظارته ممسكاً بالورقتين في يده فقال بإسلوب مسرحي: “هذا كتاب عظيم يا سادة، غاية في البلاغة و سياق الحجة. نعم هذا أفضل كتاب رأيته منذ  العام 1984 نعم تذكرت الكتاب الذي ناشد فيه كاتبه بوصول ثعبان الاسفلت إلى بيته.”  ابستم و تنهد قائلاً: “أسفي، فإن هذا الكتاب لن يقرأ.”

“لكن لكن لكن لماذا؟” صحت فيه دون أدرك أن ذلك خارج عن حدود اللباقة.  أما عن تكرار كلمة (لكن) فمرد ذلك الصدمة و البرد.  

 “هلّا أخبرتنا بما ينبغي علينا فعله كي يطلع عليه أصحاب القرار؟” استدرك صاحبي متكلماً بالنيابة عني.

“أوجز”

“لكن..لكن ورقتين، أيعجز هؤلاء أن يقرأوا صفحتين فقط؟” قلت معللاً.

مسك صاحبي عضدي،.. نظر إلي مغاضباً ثم قال لفاتح المطالب بإذن الله، جونير. ” سنختصر و نوافيك بالتعديل – طوّل الله عمرك – و اعتذر عن حماس صاحبي. فالمسكين قطع شوطاً طويلاً في دراسة اللغة اليابانية. “

“حماس شباب، يخمد إن شاء الله بعد هموم الزواج” أجاب دون أن ينظر إلينا و هو يقلب في ملف متسخ عليه بقعة كوب.

 اختصرنا، و في اليوم التالي وافيناه بصفحة واحدة.

نظر فيه و أمعن في فحصه، ثم فعل شيئاً غريباً  أخذ يهز الورقة بيده كأنه يزنها ثم قال: “هذا خير من ذاك هذا أقصر.” ثم رمى بالصفحة على المكتب و أخذ ينظر في بعض الملفات و شاهد الورقة كأن أحداً وضعها في غفلة منه فعاينها مرةً أخرى من وراء نظارته الغليظة.

“لن يُقرأ! “

“دعني أخمن، الكتاب ينبغي أن يُختصر؟” سألت و قد بان سأمي واضحاً.

“أصبت لكن أنت لم تدع لهم في أول الكتاب و لا أثنيت عليهم في وسطه  و لا شكرت لهم وقتهم من بعده، ثم أن مقاس الخط ينبغي أن يكون واضحاً 14 فما فوق وفق الحاسب الآلي. يا سادة، ينبغي للكتاب المعروض أن يحتوي على مساحة بيضاء أكثر من الحبر بداخه. اختصر، فهم يحبون الإيجاز. وقتهم غالي،  وقتهم ثمين هم لا يملكون من الوقت ما يهدرونه في دراسة لغة تكتب من الأعلى إلى الأسفل!”  

فعلنا و جاء الكتاب على هذا النحو:

بسم الله الرحمن الرحيم.

إلى  البطل الصنديد “الخوش” مسؤول  أيده الله بالحق، و كثر أعوانه و نفى من الدنيا أعداءه.

تحية طيبة..

أما بعد،

نبي ندرس ياباني أرجوك.. و اللي يرحم والديك، شدعوه ياخي؟ ياباني! و الله زين و ما يكلفكم شي، أنتوا هل كرم و جود و قهوتكم سنعة. ياباني يعني هوندا و تويوتا. و الله حركات “كشخه” حفظكم الله، ميتسوبيشي.

و الله من وراء القصد.

شكراً لأنكم نظرتم، تشكرات أفندم.     

 

“هذا هو هذا هو..!” و أخذ يضرب الصفحة بيده و الحق يقال أن الرجل لو كان في حوض استحمام لفعل ما فعل أرسطوا إذ قال: يوريكا.  “الآن فقط فهمت أنت و صاحبك كيف تصاغ الكتب. أبشروا و أملوا”

بعد أشهر ذهبت لفاتح المطالب بإذن الله، جونير.  قلت له: هذه نهاية من يستمع لنصحك! يا خيبة الرجاء.

لم يتعرف علي، جعل ينظر إلي يحاول أن يقرأ قسمات وجهي بسرعة  كما يقرأ الكتب التي تعرض عليه ثم قال:” آه، صاحب اللغة اليابانية، حسبتك صاحب مشكلة تعليم طفله!”

“لا يا سيد، أنا صاحب اللغة اليابانية”

“أخبارك؟ هل جئت تطلب النصح مرةً أخرى؟”

“أما منك فلا! إذ هدم المعهد و شٌّرد الطلاب و تم إبعاد المدرسين.”

“نهاية متوقعة..” انتزع نظارته و قضم طرفها فأعاد: “نعم، نهاية متوقعة.”  ثم أعادها، و فتح ملفاً آخر و لم يعرني أي انتباه.

“ماذا عن وعدك لي؟”

“أي وعد؟ لم أوعدك بالقبول! كل ما وعدتك بأنهم سينظرون في كتابك. و بحسبما قلت: فهم أعاروا كتابك أهمية بالغة إذ أتوا عليه!” 

“خيّل لي أني سأحصل على القبول و أني سأنقذ المعهد بطلابه بهذا الكتاب.”

“الموافقة علم بأسره يتعدى الكتاب إلى الخطاب، فالقلم له مداده و اللسان له لعابه. لا زلت صغيراً كي تفهم كيف تقبل الكتب، الكتب عندك رجاء و لدى أرباب صنعة الموافقة شكليات و رسميات. صغير بلا شك”

 

خرجت من عنده هذه المرة و كأنما بعثت شخصاً  آخر. خرجت و قد فقدت آخر إيمان لي بالقلم و آمنت باللسان.   

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. S A Sultan

    2011/05/12 - 11:23 ص

    حدث العاقل بما لا يعقل فأن صدق فلاعقل له!
    للأسف أنا أوافق الخبير، وازيدك من الشعر بيت، القرائه اصبحت شيئ من الماضي حتى في الامور المهمه اللتي تترتب عليها إتخاذ قرارات مصيريه. فما بالك بما يتعلق بإبقاء معهد للغات.
    عيش الواقع لتتعامل بمعطياته لتصل لمبتغاك. 

  2. المزيونه

    2011/06/01 - 02:58 ص

    ماشاء الله عليك كاتب مبدع

    بس اخوي لو سمحت انا عندي مشاكل وابيك تساعدني وتعطيني حلول

    حاسه انك حلال المشاكل>>مادري فوزيه الدريع الاخ

    والله ياخوي عجبني اسلوبك بالكتابه وابيك توقف معاي وقفة اخ

    يلا انتظر ردك الله يوفقكـ يابش مهندس

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات