العالم كما يراه من يحركه.

تباً لهذه الآلة، فمعها لا تستطيع الوصول لمن تريد و بها يصل إليك كل من لا تريد.

ابتسمت” الهواتف النقالة غيرت من أنماط حياتنا، أليس كذلك؟”

لكن هذا الهاتف لن يفعل أي تغيير اليوم و بالتأكيد الآن، دعني أضعه في الحقيبة.  كيف حالك اليوم يا رائد؟

بخير، و أنت؟

على أتم حال، هّلا طلبنا الشاي؟

بكل ود.

كنت دائماً أقول لجدتي أنها تأخذ القهوة على محمل الجد فهي علم بالنسبة لها، لها مقادير تتغير بحال تغير الظروف و الضيوف، لكنه بلغ من التعقيد في وصف الشاي للنادل و لعجبي كان النادل يفهم ما يقول هذا العجوز و كأنما كانا يتحدثان بلسان لست أفهمه.

و أنت أيها السيد؟ انتبهت للنادل.

قهوة لو سمحت.

أخذ يحدجني العجوز بنظرة ماكرة، الزرقة في عينيه تحاكي البرد الذي يجتاح المدينة أو العكس ثم قال: لم يكتف الأمريكيون بتغيير لكنتك فقط،…

 أنت لم ترهم بعد، لتنظر ما غيرت فيهم.

أخذ يقهقه “كم عظيمة هي هذه الإجابة”     

ثم أقبل الشاي و القهوة في موكب رسمي، كان الأمر أشبه بالكرنفال حقيقة ما حاجتنا لهذا كله؟ كنت أخشى أن يدركنا الوقت. نظر إلي و هو يدير الملعقة في كوب الشاي بكل تمهل، و لوهلة كنت أراه كمن يحرك العالم بنفس الطريقة، فهو يحرك الملعقة دون أن تحدث أصواتاً تماماً كما يبتعد هو عن جلبة الإعلام، و يعرف متى يوقف تحريكه للملعقة كي يحصل على المذاق الذي يريده تماماً كما يصفه المقربون منه بأنه لا يفرط في السعي وراء شيء. قال بلكنته الإنجليزية التي عادة ما تتسم بالصلافة و بأسلوب مسرحي :

 و هل تريد بعض من الحلوى مع قهوتك؟

شكراً، أحبذ احتساء قهوتي بدون ما يعكر مرورتها.  أجبته، و كنت أنظر إليه مباشرةً، لم أشأ أن يظن أني أهاب شخصه و الحقيقة أني لم أكترث بكل هذا التهويل الذي أسبغه عليه من أحبه أو بغضه.

لكن مضيفي كان يميل للتواضع، و الانصات، و التدبر و كأنما هو بائع ينتقي ما سيعرضه من كلام علي قبل أن يهم بالتحدث به.

“قيل لي أنك تجوب العالم في الآونة الأخيرة.” سألت و قد أردت أن أدير دفة الحديث ببدء كسر حاجز الصمت.

آه.. نعم.

كيف وجدت العالم؟

لا زال مبعثراً.

“لكن شبكة الانترنت أسهمت في تقاربه.” أجبت

 قد تظن أن الانترنت وحده يجعل من أطرافه متقاربة، لكن ثمة فرق بين العلم بالشيء و بين العمل بأي شيء تجاه هذا الشيء. ألست ترى أن المفترقات أصبحت أكثر اليوم عما كانت عليه؟ ثم مضى يحتسي الشاي، و أظنه انتبه إلى تعجبي مما قال لبرهة  فأعاد الكوب إلى صحنه القابع بيده اليسرى.

ثم تابع: دعني اضرب لك مثلاً، هناك الآن هوسٌ مطبق اليوم بين العامة للإدلاء بآرائهم بغض النظر عن ماهية التعبير و مدى جدواه لكن أصبحت اليوم بفضل الانترنت تستطيع أن تختلف مع الكثير عن الكثير، في حين كانت الجماهير تعتمد على مواقف عالمية أو أعلام من الناس  لتحدد مواقفها تجاههم لا تجاه بعضهم البعض لذا أرى العالم على هذا النحو. هذا يُسهل لمن يريد أن يقود هذه الجماعات مهمته، إن أخذنا بمقولة: فرق تسد.   

يبدو العالم منسقاً حين تصفه على هذا النسق من الفرضيات و القواعد، في حين أراه فوضوياً بعض الشيء.

الفوضى نظام لم يُفهم بعد.

ثم عمدنا إلى الحديث عن السبب الذي دعانا لضرب هذا الموعد. حتى إذا فرغنا ابتسم فقال: هناك صنفان من الناس أيها الشاب. هناك من لا يملك عقله سوى النظر و استيعاب شجرة واحدة من حوله فهو يصرف جل انتباهه إليها، فهذا صنف كثير تصادفه في كل مكان.

 أما الصنف الثاني، فهذا الذي يرى الأيك (جمع أيكة و هي الجماع من كل الشجر حتى من النخل.) فهؤلاء قلة مميزة تستطيع الربط بين عدة أمور متناثرة، و مداركها أوسع.

قلت: راقت لي صياغتك و تصنيفك.

بقي صنف ثالث لم أحدثك عنه، و هؤلاء من تكون حظيظاً إذا مررت يوماً بهم، إنهم من يرون الأكبر و الأشمل من الأيك، إنهم يمتلكون مداركاً تخولهم لرؤية الغابات و هؤلاء يملكون ذكاءً عالياً و حزماً واعياً فلا يتخبطون و لا يضلون سعيهم. هؤلاء قادرون على تسخير الأقوى و الأغنى و الأضعف على السواء في تحقيق أهدافهم و هم في هذا كله لا يلتفتون إلى المعوقات فالغابات الكثيفة تملك الحلول في كل ركن و كل زاوية.  

ثم أكمل شرب الشاي و نظر إلي مبتسماً فقال و لم تفارق عينه عيناي: هلاّ ذهبنا الآن كي نلحق بالاجتماع المزمع.

نظرت إلى ساعتي، نعم دعنا نذهب.

سألني من رتب لقائي بهذا الثعلب العجوز.” ما أكثر ما لفت انتباهك؟”

فصاحته و قدرته على تبسيط الأمور أجبت، ثم سكت و قد لاح لي ما ذهلت له حينها: لا دعك مما قلت مسبقاً، ما راعني هو أنه لم يلتفت إلى ساعته إطلاقاً أثناء حديثنا، لكنه أعلن انتهاء الحديث في الوقت المناسب كي نلحق بالاجتماع و قد كنا بغرفة لا يوجد بها أي ما يشير إلى الوقت. من يملك القدرة على تخمين الوقت الذي استغرقه في فعل شيء يعني أنه كان يملك زمام الأمر برمته. إنه.. إنه منهم!

مِن مَن؟

من هؤلاء الذين ينظرون للغابات!

مه؟ عن أي غابات تتحدث؟

لا عليك. أمضيت تلك الليلة أجوب طرقات مدينة الضباب و لا هم لي سوى أن أرى الغابات مثله.

   

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. Um 3azzan

    2011/04/09 - 01:12 م

    هم قلة، تقابلهم وبعد مقابلة قصيرة تدرك أنك تتمنى أن تجلس بقربهم مدة أطول لتستمع إلى حكمتهم وخبرتهم في الحياة

  2. ajayan

    2011/04/09 - 02:13 م

    هل رأيت تلك الغابات يارائد ام الى الأن ……. جاري البحث

  3. S A Sultan

    2011/04/09 - 03:53 م

    اعجبتني المدونه. جعلتني افكر واحلل. هل ياترى من كنت تجالسه ماسوني ؟ إن تصنيفه للعالم ينم عن ذلك. ان ترى الغابات من اعلى لا يُمكّنُكَ من رؤية أوراق الشجر فلا تستطيع ان تعرف حالها وطبيعتها لأنك لا تكترث ما يحل بها، جل همك هو كيف تستغلها لصالحك. ثم ندخل في سياق الغابه تبرر الوسيله.  

  4. Alhababi

    2011/04/12 - 07:37 م

    لا أدري يا رائد ولكن بعد ان قرأتها تذكرت رجل اعرفه مؤمن مسلم وأعتبره قدوة لي فيه من الحكمه ما لم اراه في الأجانب. احببت طريقة السرد في القصة وبالتوفيق

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات