6rqtZ5r
بو عابد، وأبو عبدالله المسافر!

السبب الذي دفعني لتدوين هذه الذكرى: 

يكفي أحيانا أن تعيد تقليب ذكرياتك كنرد كي يتجلى على السطح وجه جديد، رقم آخر وقراءة أخرى، فهم أعمق لمشاكل تتعدى شخصك. وهذا ما أفعله الآن اقلب ذكرياتي بقصد فهم ظاهرة اجتماعية. إلى أمريكا في مدينة جامعية، ومع أحد الأصدقاء ولأدعوه “عبد الله” حيث اقلّب هذه الذاكرة مرة أخرى. 

===

فرغت من أداء صلاة النفل في مسجد مدينتنا الصغيرة، كانت السماء غارقة في الزرقة والغيوم تبعثرت كأنها محاولة طفل لصبغ السماء باللون الأبيض. تناولت حذائي لألبسه وبدأ الصراع المعتاد مع كل ما تنتعله وكأن الحذاء يرفض في حقيقته أن يكون حذاءً! مع أن بعض البشر لا يمانعون أن يكونوا أحذيةً لمن يعلوهم ثراء أو جاها. ترامى إلي صوت صاحبي الجهوري، فظله ثم سائر جسده هكذا قدم صاحبي مقطعاً وعلى دفعات، وأحسبه فقد عقله أو أنه نساه بداخل المسجد ما أن قال بلا مقدمات: رائد أنت لا تعجبني. 

ضحكت دون أن أنظر إليه أو أن أعير رأيه أي اهتمام فقلت: “جمعاً إن شاء الله!” حسبت الأمر دعابة أو مزحة، “بو عابد” كان مزاحاً وطيب المعشر، فقد تصدر عنه مثل هذه الأقوال ولا يقصد بها سوى دعابة سرعان ما يختمها بضحكة مدوية متبوعة بأطراف جسده المكتنز الذي يشاركه ضحكه، ثم وبعد أن اقتنع حذائي بأن مكانه الطبيعي تحت قدمي –أجلكم الله-نظرت إليه فعرفت في ملامحه الجد، ظل يحدجني وهو مقطب الحاجبين، استغربت فقلت: بو عابد جئنا معا، واصحبتني بسيارتك إلى هنا، وتحدثنا وضحكنا و“عدونا فسبقنا ظلنا” وفي أثناء الصلاة لم أعجبك؟ 

لم يبتسم وظل الصمت بيننا، نهضت مغاضبا وقلت في عصبية: “يا هذا، حتى الخضر بين لموسى –عليهما السلام-لم فارقه، فإما تبين أو انصرف!” 

هل كانت معالم الغضب على وجهي أكثر فصاحة مني فنالت إجابته؟ إذ أجاب دفعة واحدة، وهو لا ينظر إلي: أنت تسرح كثيراً في صلاتك! 

لك أن تتخيل قسمات وجهي وهي تتبدل من الغضب إلى الحيرة لكن وجهي أراد الامتعاض بالرغم من أن الدهشة كانت تناسب الموقف تماما وعلى أحسن “وجه” 

أنت تجلس جلسة خفيفة بعد السجود. كأنك تنسى في أي ركعة أنت! 

لا بد أن الحيرة أخذت مأخذها مني حينها لأنه راح يفسر كيف توصل بفراسته أني أسرح في صلاتي. فقاطعته قائلاً: تعني جلسة الاستراحة؟ الجلسة الخفيفة بعد السجود الثاني من الركعة؟ 

قال: “نعم!” وقد لمحت في عينيه بريقاً من السعادة التي قد يلاحظها السجين في عيني من يحقق معه ويسحب اعترافاً منه حتى وإن كان قسراً. لكن هذه السعادة تبددت حين أخذت في مسح جبيني ووضعت إبهامي على صدغي وأنا أود أن أفهم ما يصبو إليه قائلا: وهل بلغك أنها سُنّة؟ 

سكت، سألته مرة ثانية وبصوت أعلى: أجبني هل بلغك أنها سنة؟ فإن لم يبلغك هل التمست لي عذراً فقلت في نفسك عل به مرضاً أو علة؟ وهب أني سرحت فهل فعلت كما يفعل السلف تسأل عن هم بي فتشاركني إياه، أو دين فتقضيه عني، عوضاً عن أن تصرّح لي بمدى إعجابك أو قلة إعجابك بي؟  

وكأنه صب على رأسي دلواً من الماء البارد حين قال: صحيح سنة؟ أين دليلك؟ 

أشرت إلى مكان بجانبي فقلت: عبد الله، بو عابد.. اجلس يا صديقي، فدعني أحدثك أيضاً بشيء لا يعجبني فيك. 

أنا؟ واعتلته دهشة من يفاجئ بأن له من العلل ما قد تلوح للبشر. 

فقلت: نعم، تصدق حتى أنت؟ “بو عابد” أنت طيب القلب، بشوش، تحب الهزال، وتجيد ضرب العود، ولا أتحدث عن الحلال أو الحرام فلا تظن أني أعيّرك بذنب بل أقول أن لك موهبة في الموسيقى، وأنت حر في تنميتها أو وأدها كما شئت. لكن هناك شيء غريب ينتابك ما أن تطأ المسجد، إذ لا تخلع حذائك في فناء المسجد إلا وقد خلعت معه نفسك وانسلخت من ذاتك، وتتقمص دور: “أبا عبد الله المسافر!” 

Enter ,Abu Abdullah AlMusafer, the Dragon 

تتبدل وتتحول كما يتحول كلارك لسوبرمان. حركاتك تكون مفرطة في التوتّر، عيناك تدوران في محجرهما بحثاً عن خطأ تصوبه، فإما استمع لك أحدهم من توه مع قلة علمك، أو ترميه بالبدعة وكل بدعة في النار! حتى حديثك يتبدل فتكون عباراتك مقتضبة، وجلها أوامر أو نواهي، كأنك جنرال في ثكنة عسكرية وكل من حولك دونك رتبة. تعيب على الناس أمر دنياهم، وقد أتيت لتوك من عندهم. ويحك أهبطت من السماء؟ أم بعثت من مرقدك فأنكرت الزمان وأهله؟ وفي حين ينقذ الرجل الخارق – سوبرمان-أحدهم، تسابقه أنت في إصدار أحكامك المسبقة على الجميع. ما أقل فقهك، وما أسرع حكمك على خلق الله يا أبا عبد الله المسافر. 

هلا وقفت أمام الله في بيته، معترفاً بنقصك وتقصيرك بين يديه؟ كن أنت ذاتك بو عابد الذي نعرفه ونحبه وجرب الوقوف مع المقصرين، ولا تكن أبا عبد الله المسافر الذي نجهله، ونأنف منه. لم تجبر نفسك على اضطراب تعدد الشخصيات هذا؟ فوالله إن بقيت على هذه الحالة قد يأتي عليك يوم، تفقد فيه نفسك ويتلبسك من الأدوار ما لا تحب إلى الأبد. 

هكذا ختم الحوار، وخرجت للدنيا كما تركتها عند دخولي للمسجد، وخرج عبد الله إلى الدنيا في ذلك اليوم كما هو، وأخشى ما أخشاه أن يخرج إليها ذات يوم نازعاً عنه ذاته، متقمصاً دور “أبا عبد الله المسافر.” 

 

FacebookTwitterGoogle+WhatsApp
  1. Mohd

    2015/07/27 - 03:25 م

    البعض حجتهم في الحديث : “ارجع فصل فإنك لم تصلِّ”.

    لو فكّر في اصلاح نفسه لكان خير له.

    تدوينة جميلة وقلم رائع، شكراً لك.

أضف تعليقك

*

أهم التدوينات